الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد فإن الله شرع للمسلم الإجتماع بإخوانه المسلمين في عبادات متنوعة كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين والاستسقاء وغير ذلك لحكم عظيمة. ومن أعظم مقاصد إظهار الشعائر والاجتماع عليها تثبيت المؤمن وزيادة إيمانه وتقوية صلته بربه.
إن المؤمن الصادق يجد راحة في النفس وانشراحا في الصدر وطمأنينة في القلب وثباتا على الحق في المجتمع المحافظ الحريص على إظهار شعائر الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا أمر معلوم شرعا وحسا. قال تعال: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
إلا أن المؤمن قد تطرأ عليه أحوال أو تنزل به ظروف تحمله على الإقامة في بلد كافر أو بلد إسلامي تظهر فيه مظاهر الإنحراف من الزنا وشرب الخمر والتبرج والاختلاط ومخالطة الكفار وقلة الأنشطة الدينية وغير ذلك مما يكون لذلك أثر سيء على دين المؤمن ووسيلة إلى ذوبانه وفقده التمسك بشرع الله. وكثير من المتدينين يشكون في هذه المجتمعات ضعف الإيمان وقسوة القلب ويسألون عن الإجراءات النافعة والحلول العملية للخلوص من هذه الأزمة.
إن وجود المؤمن في هذا الوضع يشكل خطرا ظاهرا على دينه لا سيما إذا أهمل هذه القضية ولم يتفاعل معها. إن الخطورة تكمن في بحر الشبهات المتلاطمة التي يسمعها في كل مناسبة عامة وخاصة من تشكيك في الدين وتطاول على أحكامه وتوجيه التهم والمطاعن عليه أو طرح مفهوم الحرية والمساواة والعلمنة وغير ذلك من الشبه التي تختلط على عقل المؤمن وقلبه ويلتبس فيها الأمر وتتمكن في قلبه ولا يستطيع دفعها. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإستماع إلى الشبه في قوله: (إذا رأيتم الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم). رواه البخاري.
وتكمن أيضا في بحر الشهوات التي تعرض عليه ليلا نهارا ويتأثر بها فأينما يمم وجهه وجد الشهوة تناديه وقد ينجر وراء كثرة المغريات وسهولة فعل المعصية وضعف الرقابة وغياب الرادع مما يجعله لا يستطيع أن يقاوم أو يصمد لفترة طويلة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال الصالحة فستكون فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسى كافرا ويمسى مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا) رواه مسلم.
إن إهمال المؤمن لمتابعة مستوى إيمانه والحرص على الحفاظ على دينه يوقعه في منزلق خطير قد ينتهي به إلى أحد طريقين:
(1) إما الانفصال بالكلية عن هذا المجتمع والعزلة عن أهله والوقوع في الغلو والتكفير والعياذ بالله فيحصل عنده يأس وقنوط من إصلاح العباد ويظن أنه بهذا التصرف أراح ضميره وأنهى مشكلته واستطاع أن يحافظ على دينه.
(2) أو التساهل والذوبان في هذا المجتمع بعوائده السيئة وأفعاله القبيحة ومجاراة أهله في مبادئهم وقيمهم التي تعارفوا عليها ولو كانت مخالفة للشرع من فعل المعاصي الظاهرة ومشاركتهم في مظاهر التحرر والتشبه والموالاة لأعداء الله ويصبح بلا هوية. وقد أوقعه في ذلك قلة بصيرته وإيثاره الدنيا على الآخرة وضعف عزيمته. وكلا الطريقين خطأ ومخالف للشرع الإفراط والتفريط.
إنه يجب على المسلم في هذا الوضع أن يعتني بحفظ دينه وحماية إيمانه والتزامه بسنة النبي صلى الله عليه وسلم والتمسك بشرعه وأن يخشى ويحذر أشد الحذر من تغير دينه وانتكاسته فالقلوب سريعة التقلب والتغير كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. إنه يجب على المؤمن أن يكون شحيحا بدينه يحزن ويقلق إذا فقد شيئا منه أشد مما يجد إذا فقد الدنيا لا يكون كحالنا اليوم نأسف ونحزن على فقدنا للدنيا ولا نكترث إذا ذهب شيء من ديننا . فمن حزن لدينه كما يحزن لدنياه كان في قلبه حياة ونور وظلمه. ومن لم يحزن على فراق دينه وفقده كان قلبه ميتا لا حراك به فليصل عليه. ومن كان حزنه على دينه أعظم من حزنه على دنياه كان قلبه حيا ونورا لا ظلمة فيه وهو خير الثلاثة. ومهما حصل للمؤمن من فتور وضعف يذهب أثره بالتوبة والاستغفار إنما المصيبة أن تستمر هذه الغفلة حتى ترديه قتيلا والله المستعان.
إن هناك عوامل مهمة تعين على حفظ دين المؤمن وسلامته إذا أخذ بها المؤمن ثبت على الحق مهما كانت الظروف صعبة والغربة شديدة وصوت الحق ضعيفا:
أولا: أن أهم ما يثبت المؤمن استمراره على الدعاء بصدق كما كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو بالثبات على الدين. فإذا ألح المؤمن في دعائه وصدق مع الله وكان موقنا بالإجابة واختار الأوقات التي يصفو فيها القلب ويخشع وتعظم الرغبة بوعد الله فحري بأن يجيب الله دعوته ويحقق مراده لا سيما إذا دعا بدعوة المضطر. قال تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ).
ثانيا: أن يوقن المؤمن بأن الهداية والتوفيق بيد الله يصرفها لمن يشاء من عباده ممن علم صدقه واستحقاقه لها فإذا أوقن بذلك استعان بربه وعلق قلبه به سبحانه وتبرأ من حوله وقوته وذكائه. ومن علق رجاءه بالله واعتمد عليه ووثق بعطائه حري بأن ينصره الله ويكون معه ويفيض عليه من بركاته ما يسكن قلبه ويطمئن فؤاده ويشرح صدره للإيمان ويثبته على الحق ولا يخذله ويتركه للشياطين. قال النبي صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى : ( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم ، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ). متفق عليه .
ثالثا: أن يكثر من الأعمال الصالحة ويداوم على الفرائض والسنن. فإن المداومة على العمل الصالح يقوي الصلة بالله ويملأ القلب ثباتا ويؤتي النفس زكاة ونورا وبصيرة. وأثر الطاعة ظاهر على القلب والجوارح.
رابعا: أن يجعل له وقتا راتبا يخلو به بربه وينأى عن الخلق ودنياهم الزائلة فيذكر ربه ويحاسب نفسه ويبكي على خطيئته ويجدد العهد بربه. فلهذه المجالس أثر عظيم في شحن المؤمن بالطاقة الإيمانية وغسل القلب من الأدران والأوساخ التي علقت به من جراء فتن الدنيا ومخالطة الخلق. وإذا فرط فيها المؤمن خارت قواه ورق دينه وتعرض للهلاك. ولذلك شرعت أذكار الصباح والمساء وسبحة الضحى وصلاة الوتر والسور الراتبة. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظب على ذلك.
خامسا: أن يكثر من التدبر في كلام الله والتفكر في آلائه وحال الدنيا ومآله في الآخرة وأهوال القيامة. فمن أكثر التفكر والتدبر أورثه ذلك فراسة وبصيرة ونورا تتجلى له الحقيقة في كثير من زخارف الدنيا التي تنطلي على كثير من الغافلين. ولذلك شرع التدبر والتفكر.
سادسا: أن يتفقه في دين الله ويطلب العلم لا سيما في باب الإعتقاد والسنة. فإنه إذا عرف دلائل الشرع وفقه المسائل وفتح عليه في معرفة مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قويت حجته وعظمت خشيته ولم تضره فتنة مادامت السموات والأرض.
سابعا: أن يبتعد عن الأماكن التي تكثر فيها الفتن كالأسواق والمنتزهات وغيرها ما استطاع إلى ذلك سبيلا وأن يباشرها وقت الحاجة فإن انتهت حاجته انصرف عنها وأن لا يدخل الأماكن المعدة للمعصية مهما كان الحال وأن لا يتهاون في هذا الأمر. فإن التساهل في ذلك يوقع المؤمن في الحرام ومن حام حول الحمى وقع فيه.
ثامنا: أن يحرص على صحبة الصالحين ومجالستهم ولو كان شخصا واحدا وأن يعتني بهذه الصحبة ويستشعر أنها قربة وطاعة. فليحرص على لقياه مهما بعد اللقاء وطالت المسافة بينهما. فإن الإرتباط بالرجل الصالح ولو قل علمه يثبت المؤمن ويعينه على الطاعة. أما الانعزال عن الصالحين والزهد في صحبتهم يجعل المؤمن ضعيفا فريسة سهلة لشياطين الإنس والجن. وكثير من الناس لما قصروا في ذلك تغيرت أحوالهم وابتعدوا عن الجادة والله المستعان.
تاسعا: أن يشتغل بالدعوة إلى الله وهداية الخلق لربهم ونشر الدين. فإن الإشتغال بذلك يثبت الإيمان في القلب ويشرح الصدر ويورثها اطمئنانا ويقينا ويصرفها عن مداهنة الباطل والركون إلى الدنيا وأهلها وتضييع الأوقات في اللهو والباطل. فالنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل. والمؤمن إذا ترك الدعوة للدين وصار من أهل البطالة وأخلد إلى الدنيا ضعف يقينه وثقته بدينه وسهل التأثير عليه وجره إلى طريق المعصية.
ومما يؤسف أن كثيرا من المسلمين تركوا التدين لما أقاموا في بلاد الكفر متأثرين بالمظاهر المادية والحضارة الزائفة. ومنهم من انسلخ عن دينه بالكلية والعياذ بالله.
وأخيرا فإن المؤمن إذا كان حريصا على سلامة دينه وبقاء إيمانه كما يحرص على عمارة دنياه وصدق مع الله وتعاطى الأسباب النافعة فإن الله سيحفظ دينه وييسر أمره ويثبته على الصراط المستقيم مهما كثرت العوائق في طريقه وأطلت عليه الفتنة بصنوفها. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ). وقال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ).